الحروب الصليبية هي سلسلة معقدة وطويلة من الحملات العسكرية التي نظمتها القوى المسيحية الكاثوليكية بهدف إستعادة الأراضي المقدسة ومدينة أورشاليم (القدس) من سيطرة المسلمين في منطقة شرق المتوسط. حققت الحملات الكثير من النجاحات الباهرة ومُنيت بإخفاقات كبيرة، لكن الهدف الأساسي المتمثل بإبقاء مدينة أورشاليم تحت السيطرة المسيحية وإلى الأبد، لم يتحقق أبدًا. على الرغم من ذلك، بقيت الروح الجاذبة للأفكار الصليبية مسيطرة على عقول الأوروبيين حتى منتصف القرن 16 م.
الغرض من كتابة هذه المقالة هو الوقوف على العوامل المؤثرة والمحفزة للمد الصليبي، بدءً من أقوى شخصية في أوروبا الوسيطة، أي البابا، وصولاً إلى أدنى المحاربين رتبةً وأكثرهم فقرًا ماديًا وعوزًا إجتماعيًا وتواضعًا، وبالتحديد، العوامل التي سبقت ومهدت ورافقت الحملة الصليبية الأولى التي أَسست نموذجًا أوليًا بنيت عليه جميع النماذج اللاحقة.
مَن الذي أراد من هذه الحروب، الحصول على ماذا؟
لماذا حصلت الحروب الصليبية، هو سؤال معقد له إجابات متعددة، بحسب المؤرخ جوناثان ج. رايلي سميث:
"لا يمكن التشديد على الفكرة القائلة أن الحروب الصليبية كانت حروب شاقة ومربكة ومخيفة وخطيرة، ذو كلفة باهظة على المشاركين فيها، ولكن في المقابل أن عدم فقدان الحماس والرغبة بالإستمرار في خوضها بالنسبة لهؤلاء، إتضح عبر القرون على أنه ليس بالأمر السهل إيضاحه (10) .
يقدر عدد الذين تأثروا بتوجيهات القادة السياسيين والدينيين في أوروبا، واقتنعوا بفكرة المشاركة في الحملة الصليبية الأولى (1095-1202 م) ومن مختلف الطبقات الإجتماعية، كما الفئات العمرية، رجالاً نساءًا واطفالاً، قد ناهز 90 ألفًا. كما وأن دوافعهم المتفاوتة، إلى جانب دوافع هؤلاء القادة في ذلك الوقت، وجب خضوعها لفحص مستقل، للوصول إلى تفسير مرضٍ. على الرغم من أننا لا نستطيع الوصول للحقيقة المجردة لمعرفة أفكار وسلوك الأفراد من الذين تأثروا وشاركوا بالحملات، إلا أن الأسباب العامة وراء الترويج للقيم الصليبية، والتصرف وفقًا لمُثلِها العليا، يمكن تلخيصها بحسب رؤية القادة الرئيسيين والدوائر الإجتماعية في أوروبا بالتالية:
- الإمبراطور البيزنطي - هَدَف لإستعادة الأراضي التي خسرها، وإلحاق الهزيمة بدولة شكلت له تهديدًا وجوديًا.
- البابا - هَدَف تقوية نفوذ الكرسي الرسولي في روما والإرتقاء نحو هيمنة أكثر في العالم المسيحي، كونه الممثل الشرعي والوحيد له.
- طبقة التجار - هدفت إحتكار المراكز التجارية النشطة ذات الأهمية والخاضعة للسيطرة الإسلامية، كما وهدفت أيضًا لكسب المال الوفير من خلال جهود نقل المقاتلين المسيحيين إلى الشرق.
- طبقة النبلاء والفرسان - هدفت للدفاع عن المسيحية (دينًا وأتْباعًا ورموزًا)، وإتباع مبادئ وقوانين الفروسية وتحقيقًا للمكتسبات المادية في الحياة الدنيا ومنزلة خاصة في الحياة الآخرة.
الإمبراطورية البيزنطية
سيطرت الإمبراطورية البيزنطية في وقت لاحق من الزمن على مدينة أورشليم ومواقع مقدسة أخرى -من وجة نظر المسيحيين- لقرونٍ خلَت، ولكن في السنوات الأخيرة من القرن 11 م. بدأت سطوة البيزنطيين بالتلاشي شيئاً فشيئا، فقد خسروا العديد من الأراضي لصالح دولة سلاجقة الروم والتي هي عبارة عن مجموعة عرقية من قبائل الغز أو الأوغوز التركمانية موطنها الأصلي سهوب آسيا.
السلاجقة الذين نجحوا في خرق الدفاعات البيزنطية، ألحقوا بأعدائهم هزيمة كبرى ساحقة وصادمة في معركة ملاذكرد يوم 26 آب / أغسطس عام 1076 م في أرمينيا القديمة، استطاعوا من خلالها أسر الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجين (1068-1071 م). وعلى الرغم من أنهم أطلقوا سراحه مقابل فدية ضخمة من النقود، إلا أن الإمبراطور أُرغم على تسليم مدن ذات أهمية مثل إيديسا (الرها) وهيروبوليس وأنطاكيا لهم، فشكلت نتائج المعركة صفعة كبيرة لبيزنطة، وما زاد من تفاقم الأمور هو الصراع على العرش البيزنطي الذي اندلع عقب الهزيمة العسكرية والفوضى التي أصابت البيزنطيين، والتي لم تنحسر إلا بعودة الإمبراطور رومانوس إلى كرسي العرش مجددًا. وقد ثبت في وقت لاحق أن العديد من القادة البيزنطيين تخلوا عن مواقعهم العسكرية والسياسية طمعًا بالمطالبة بحصتهم من العرش في القسطنطينية.
إستثمروا السلاجقة في إنتصارهم، وإستفادوا إستفادة كاملة من تراجع الدور العسكري البيزنطي بعد الهزيمة المذلة، فقاموا بتأسيس دول عرفت بدولة سلاجقة الروم أو دولة السلاجقة حوالي عام 1078 م. واتخذوا من نيقيا في منطقة بيثينيا شمال غرب آسيا الصغرى عاصمةً لهم، والتي تم الإستيلاء عليها من قبل البيزنطيين عام 1081 م. بدا واضحًا طموح السلاجقة اللامتناهي، بحلول عام 1087 م. دخلت القدس ضمن شبكة سيطرتهم.
تبدل العديد من الأباطرة البيزنطيين بعد المعركة، إلى أن أُستهل عهد أليكسيوس الأول كومنينوس أو أليكسيس كومنين (1081-1118 م) الذي نجح في إرساء إستقرار نسبي في ربوع الإمبراطورية. وأليكسيوس هذا، كان من المحاربين القدامى في معركة ملاذكرد، لم يستطع كبح جماح السلاجقة، ويلقى عليه اللوم لخسارة العديد من الأراضي، لأنه هو من كان وراء إضعاف "الثيمات" (المقاطعات العسكرية) المتاخمة لدولة السلاجقة في آسيا الصغرى. فقد قام أليكسيوس بإضعاف المقاطعات لإضعاف القادة العسكريين خوفًا من طمعهم في العرش في مدينة القسطنطينية، ثم قام بتعزيز الحاميات العسكرية في المدينة، كما كان الإمبراطور أيضًا مشككًا في ولاء مرتزقته النورمانديين، نظرًا للسيطرة النورماندية على صقلية والهجمات الأخيرة التي شنت في اليونان البيزنطية. وقد رأى أليكسيوس ان سيطرة السلاجقة على أورشاليم وسيلة لإقناع القادة الأوروبيين بالخطر الداهم، فناشد ألكسيوس الغرب في ربيع عام 1095 م بضرورة تقديم المساعدة على طرد السلاجقة، ليس فقط من الأراضي المقدسة، بل ومن جميع أجزاء الإمبراطورية البيزنطية التي إحتلوها سابقًا. فالقوة العسكرية قد تثبت أنها السلاح الوحيد والفعال في حفظ وحماية العرش البيزنطي.
البابا
تلقف البابا أوربان الثاني (حكم من 1088 إلى 1099 م) نداء الإمبراطور أليكسيوس في عام 1095 م ووقف على تفاصيله وفحصه بعناية، فهذ النداء لم يكن النداء الأول الذي يطلب بموجبه إمبراطور بيزنطي المدد من البابوية ويحصل عليها، ففي عام 1091 م، أرسل البابا قوات عسكرية لمساعدة الدولة البيزنطية ضد نشاط قبائل البجناكة او البتشناق التركمانية التي إستهدفت منطقة الدانوب الشمالية للإمبراطورية، وفي نداء أليكسيوس لم يتردد البابا أيضًا بتقديم يد العون لأسباب مختلفة، ذلك لأن الدعم الصليبي يساهم في رفع سطوة البابوية، ويعزز من موقعها في إيطاليا نفسها، بعد أن تعرضت لتهديدات خطيرة من الإمبراطورية الجرمانية المقدسة في القرن الماضي لدرجة أجبرت العديد من البابوات في كثير من الأحيان على الإنتقال من روما إلى أماكن أكثر أمنًا.
كان البابا أوربان الثاني يأمل في إعادة توحيد الكنائس المسيحية الغربية (الكاثوليكية) والشرقية (الأرثوذكسية)، بحيث يكون هو على رأسها، متفوقًا على بطريرك القسطنطينية. منذ عام 1054م، تم تقسيم الكنيستين بسبب الخلافات حول العقيدة والممارسات الليتورجية (اللاهوتية)، وقد وجد البابا في الحملات الصليبية ومن خلال رفع منسوب التهديد الذي يتعرض له المسيحيين من قبل المسلمين الحل في بث روح القتال لدى الأوروبيين. فالحجة قوية ومقنعة، لا يمكن إستعادة السيطرة المسيحية على الأراضي المقدسة مع مواقعها الفريدة ذات الأهمية التاريخية، لا سيما قبر عيسى المسيح، والقبر المقدس في أورشاليم، إلا من خلال الحملات الصليبية. علاوة على ذلك، كانت التطورات في إسبانيا بمثابة إنذار مبكر عن مدى هشاشة العالم المسيحي ووضعه اللامستقر. بحلول عام 1085 م، عادت نصف إسبانيا إلى الحظيرة المسيحية نتيجة لحروب الإسترداد، كما وإستطاع النورمانديون ضم صقلية مرة أخرى إلى السيطرة المسيحية، لكن التهديد الإسلامي في أوروبا ظل تهديدًا حقيقًا وقويًا، وهو أمر يمكن للبابا أوربان الثاني التلويح به وإظهار مدى خطورته للناس، فلقد كان نداء المدد الذي أطلقه أليكسيس كومنين يحمل في طياته جميع المزايا السياسية والدينية المناسبة للشروع بالحملات الصليبية.
في 27 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1095 م، أطلق البابا أوربان الثاني خطبته النارية أمام مجلس كليرمون بفرنسا، وفيها دعا إلى شن حملة صليبية. الخطبة التي حملت بطياتها وعود الغفران، كانت صاخبة وجلية، وإستهدفت الفرسان على وجه التحديد: أولئك الذين دافعوا عن العالم المسيحي سيشرعون في رحلة حج، بحيث سيتم غسل كل آثامهم، كما وستجني أرواحهم مكافآت لا حصر، ولا وصف لها في الحياة التالية.
في أوروبا العصور الوسطى، تغلغلت المسيحية في كل جانب من جوانب الحياة اليومية، حيث كان الحج فريضة، والأديرة تعج بالمؤمنين، إضافة إلى إزدياد ظاهرة تطويب وترسيم القديسين. كما وأن فكرة الخطيئة كانت سائدة بكثرة في تلك الأيام، ووعْد البابا بمنح الخلاص والإفلات من عواقبها أثارت إعجاب الكثيرين، وهذا ما يعني أيضًا أنه يمكن للكنيسة أن تتغاضى عن العنف الناتج عن الإقتتال، لأنه تحرير (وليس إعتداء) بل على العكس، يحمل هذا العنف في طياته هدفًا عادلًا ونبيلًا.
شَرع أوربان الثاني في جولة وعظية في فرنسا بين عامي 1095م و 1096م، هدفت لتجنيد أكبر عدد ممكن من المحاربين، حيث تم تطعيم روايته بحكايات مبالغ فيها عن تدنيس الآثار المسيحية، وإضطهاد المؤمنين المسيحيين وتعذبيهم دون محاسبة المرتكبين. كما وقام بإرسال السفراء والرسائل إلى جميع اجزاء العالم المسيحي، وعملت الكنائس الرئيسية، مثل تلك الموجودة في ليموج وأنجيه وتور كمراكز تعبئة وتجنيد للمقاتلين، كما عملت الكنائس و بالأخص الأديرة كمراكز تعبئة في المناطق الريفية. إحتشد المحاربون طوال عام 1096م في جميع أنحاء أوروبا وهم على أهبة الإستعداد للشروع بالذهاب إلى القدس.
التجار
إن الشيء الذي يمكن تأكيده، هو أن التجار الأوروبيين ومع عدم مشاركتهم في الحملة الصليبية الأولى، أصبحوا بدون أدنى شك أكثر حماسة في الإنخراط في الحملات الأخرى، وذلك منذ عام 1200م، ويعود ذلك لرغبتهم العارمة في فتح قنواتٍ تجارية مع الشرق، مع عدم إغفال نيتهم في السيطرة على المراكز التجارية الثقيلة مثل إنطاكية والقدس. علاوة على ذلك، يمكن للتجار تحقيق ربح كبير من جهود نقل الصليبيين عبر البحر. في الواقع، ومنذ بدء الحملة الصليبية الثانية (1147-1149 م)، تم توقيع عقود مربحة مسبقة لشحن الجيوش وعتادهم إلى شرق المتوسط. فتنافست المدن التجارية الإيطالية مثل البندقية، بيزا، وجنوة، وكذلك مرسيليا في فرنسا، فيما بينها على إحتكار الطرق التجارية بين الشرق والغرب. وعلى الرغم من ذلك، يجب أن لا يغيب عن ذهن القارىء أن هذه المدن قدمت أيضًا الكثير من المتشددين الدينيين والحريصين على الكفاح من أجل القضية المسيحية وليس فقط بهدف جني الأموال منها.
الفرسان الأوربيون
بحلول القرن 11م، أصبح المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى يتجه نحو العسكرة بشكل متزايد، فالحكومات المركزية ببساطة لم يكن لديها الوسائل الكافية لبسط حكمها على كل جزء من أراضيها. أولئك الذين حكموا من الناحية العملية على المستوى المحلي كانوا من كبار ملاك الأراضي، والبارونات الذين لديهم قلاع وقوة من الفرسان للدفاع عنهم. إنضم الفرسان، وحتى الملوك والأمراء، للحملات الصليبية إلتزامًا بالمبادىء والواجبات الدينية المتمثلة بالدفاع والذود عن مقدسات المسيحيين من "الكفار"، وربما الإستحصال على الخلاص في الحياة الآخرة. مع الاهمية لعدم أغفال أنه لم يكن هناك كراهية عرقية أو دينية ضد أولئك الذي اغتصبوا الأراضي المقدسة، مع العلم بأن رجال الدين استخدموا ببراعة أدوات الدعاية المتاحة لهم لبث روح الكراهية من خلال الخطب والعظات التي ألقوها في جميع انحاء أوروبا بغرض التجنيد، فحقيقة غياب المعرفة التامة عن المسلمين وشؤونهم وأوضاعهم بالنسبة للجمهور المسيحي المستهدف يعني أن شيطنة المسلمين في نظر العامة في أوروبا لن يكون لها أي صدى ذكر. فقد كان المسلمون هم الأعداء ليس لأنهم مسلمين، بل لأنهم استولوا على الأماكن المقدسة. وقد تم التشديد على هذه النقطة من خلال ما قدمه المؤرخ ماركوس بول:
يميل المزاج الشعبي في فهم مسار الحروب الصليبية في الوقت الحاضر إلى التفكير من منظور صراع كبير بين الأديان غذاه التعصب الديني. ويرتبط هذا المزاج بالحساسيات المعاصرة حول التمييز الديني، وله أيضًا أصداء في ردود الفعل على النزاعات السياسية الحالية في الشرق الأدنى وأماكن أخرى من العالم. لكن هذا المزاج، وعلى الأقل فيما يتعلق بالحملة الصليبية الأولى، يجب عدم الأخذ به. (رايلي سميث 18).
بالنسبة للفرسان الراغبين بالمشاركة بالحملات، فقد كانت فرص الحصول على غنائم وافرة وأراضي إضافية وربما حتى بألقاب جديدة عالية جدًا. قد يتعين على هؤلاء بيع أراضيهم في أوروبا، لأن المعدات اللازمة للسفر كانت باهظة الثمن، لذلك كان هناك تضحيات مالية كبيرة يجب أن تقدم في البداية. ولهذا الغرض، كانت الأديرة حاضرة لترتيب القروض لأولئك الذين كافحوا لتغطية التكاليف الأولية. كما وأن قيم الفروسية – أي واجب الفارس أن يقوم "بالعمل الصالح" المتمثل ليس فقط بحماية مصالح رعيته وكنيسته، بل وبمصالح الفقراء والمضطهدين والمعذبين، كانت ملزمة للعديد منهم. في القرن 11 م، كان قانون الفروسية لا يزال في طور التشكل، وبالتالي الإهتمام كان منصبًا نحو دعم أخوة السلاح. وبطبيعة الحال، فإن أهمية الفروسية كحافز للانضمام إلى الحملة الصليبية الأولى ربما كانت تكمن في النظر إليها على أنها نشاط متمثل بتقديم الحماية والدعم والعون لأخوتهم الفرسان، ولم يبرز جانبها الأخلاقي إلا في المراحل المتقدمة من الحروب الصليبية بحيث تغذت على وقع القصائد الشعبية والأغاني الحماسية التي عكست شجاعة الفرسان في ميادين القتال.
بالنسبة لبعض الفرسان، فقد إضطروا للإنضمام لسلطة البارونات أو اللوردات كجزء من الخدمة العسكرية التي يقدمونها لكسب لقمة العيش. من الناحية الفنية، الصليبيون كانوا متطوعين، ولكن البقاء في القلعة والإهتمام بشؤونها، بينما ذهاب اللورد سيد القلعة إلى الشرق لتقديم الخدمات العسكرية، كانت فكرة لم يستسيغها معظم الفرسان. أضف إلى ذلك، أن العديد من الفرسان إلتحقوا بأبائهم وأخوتهم في الحملات حيث كانت روابط القرابة والحماية المتبادلة متينة وعلى أشدها. ومع إستمرار الحروب الصليبية، ظهرت عادة عند العائلات توحي بأن على فرد واحد منهم على الأقل من كل جيل، إكمال ما بدأه والده أو جده ومواصلة الكفاح من أجل القضية المسيحية.
المواطنون العاديون
إلى جانب طبقة الفرسان والنبلاء في المجتمع، جذبت هيستيريا المشاركة في الحملات الصليبية العديد من جنود المشاة، والرماة، وحملة الدروع العاديين، وغير المقاتلين اللازمين لدعم الفرسان أثناء الحملة. تُنسب الكثير من حماسة الناس العاديين بمن فيهم النساء، إلى المرويات التي تناقلتها الناس عن أعمال الراهب الفقير بطرس الناسك في قيادة طائفة من الناس الفقراء والذهاب بهم إلى مدينة القسطنطينية عام 1096م. هذا الجيش الجامح غير المنظم، المشحون عقائديًا، والذي أطلق حملة غير رسمية يشار إليها أحيانًا باسم "الحملة الشعببية الصليبية"، تم نقله إلى آسيا الصغرى بدعم مباشر من أليكسيوس الأول كومنينوس، ولكن دون الإلتفات لتوصيات وتوجيهات القادة البيزنطيين، كُمن لهذا الجيش بالقرب من نيقية وأبيد بالكامل من قبل الجيش السلجوقي في 21 تشرين أول / أوكتوبر 1096م.
إلى جانب الهيبة والشرف اللذان منحتهما المشاركة في الحروب الصليبية، - دُعيوا بالصليبيين لأن المقاتلين إرتدوا شارة الصليب على الكتف، أو السترة، أو العباءة - كانت هناك بعض الفوائد العملية التي إستحصل عليها المواطن الاوروبي العادي جراء مشاركته بحملات الدفاع عن الصليب، على الأقل بحلول القرن13 م. وشملت الفوائد، تأخير الخدمة الإقطاعية المقدمة من الفلاح للسيد الإقطاعي، تسريع البت بالدعاوى القضائية قبل الإلتحاق والمغادرة مع الحملات المتجهة إلى الأراضي المقدسة، إلى جانب الإعفاء من بعض الضرائب والرسوم، وتأجيل سداد الديون، والتخلي عن أحكام سابقة متعلقة بالحرمان الكنسي.
خاتمة
إستنادًا إلى إشارة المؤرخ سي. تايرمان في كتابه "حرب الرب''، وبكثير من أوجه الشبه كان عام 1095م هو نفسه عام 1914م بالنسبة للعصور الوسطى من نواحي عديدة - عاصفة كاملة من الغضب الروحي، والمكاسب الشخصية، والدعاية السياسية والدينية المتمأسسة، ضغط الأقران، الإحتمالات المجتمعية، والتعطش للمغامرة، والتي اجتمعت كلها لإلهام الناس وحثهم لمغادرة منازلهم والبدء في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى وجهة مجهولة لا يعرفون عنها شيئًا بحيث قد يحصلون على المجد أو الموت أو الموت فقط. لم تتبدد الحماسة عل الإطلاق، إذا كان هناك من شيء قد ساهم بها، فإن نجاح الحملة الصليبية الأولى واستعادة القدس في 15 تموز / يوليو 1099م، قد ألهم المزيد من النفوس "بحمل الصليب". توسعت فكرة الحملات الصليبية لتصل إلى إطلاق مشاريع تحريرية جديدة وجريئة، مثل تحرير إسبانيا من المغاربة الموريون (حرب الإسترداد)، أو شن هجمات على الأقليات الدينية في أوروبا مثل اليهود والوثنيين والهراطقة (الحملات الصليبية الشمالية)، كما تم تأسيس تنظيمات رهبانية عسكرية خصصت للدفاع عن الأراضي المكتسبة في الشرق والحجاج المتوجهين إلى بيت المقدس، كما فرضت الضرائب باستمرار لتمويل المجهود الحربي للحملات التي تلت.
مع تحقيق الجيوش الإسلامية والمسيحية للعديد من النجاحات والإخفاقات في بعض الأحيان، أبقت التطورات الجيوسياسية في الشرق اللاتني رسامي الخرائط منشغلين دائمًا بوضع الخرائط التي كانت تتغير دائمًا بتغير رقعة السيطرة والنفوذ على مدار القرون الاربعة التالية.