يُعد إبراهيم في اليهودية والمسيحية والإسلام، أبُ مبجّل، وتمثل علاقته بالرب القصة التأسيسية لعلاقة الرب المفيدة للبشرية، وُلد إبراهيم وفقًا لتقاليد العهد القديم (والبعض يقول أسطورة)، (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) في مدينة أور في بلاد ما بين النهرين أو بالقرب منها، وعلى الأرجح في جَنُوب كلدان. تزوج إبراهيم (واسمه الأصلي أبرام)، من أخته غَيرُ الشَقِيقَةٍ سارة (واسمها الأصلي سَارَاي) وبدأ رحلة طويلة من بلاد ما بين النهرين إلى حران، ثم إلى كنعان ومصر فيمَا بعد. جاء اسم إبراهيم مفصلًا في سفر التكوين، الإصحاحات من 12 إلى 25، ويعني اسمه "أبو الجَمهور" و/أو "خليل الله". كانت رحلة إبراهيم، كما صورها العهد القديم، طويلة ومثيرة، حيث التقى إبراهيم وسارة بالعديد من الثقافات والعادات والمجموعات البشرية المختلفة على طول الهلال الخصيب من بلاد ما بين النهرين وصولًا لمصر.
القصة التقليدية لإبراهيم
يشير العهد القديم أنه في سن الخامسة والسبعين تلقى إبراهيم دعوة إلهية أو نداء من الله (الرب) للسفر إلى أرض بعيدة حيث سيكافئه الرب بما لا يتوقعه. يذكر سفر التكوين (12: 1-3):
"وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ."
وَثَقَ إبراهيم بالرب وأخذ عائلته بِرُمَّتها (بما في ذلك والده وابن أخيه لوط) وممتلكاته الشخصية في رحلته إلى أرض الميعاد، بالرغم من الأخطار الكامنة من السفر في هذا العمر الكبير وعبور أرض مجهولة وغير صديقة.
يُزعَم أن في الجزء الأول من الرحلة أخذ إبراهيم عائلته إلى حران في شمال بلاد ما بين النهرين، حيث توفي والده تارح عن عمر يناهز 205 سنة، في الجزء الثاني من الرحلة، دخلت قافلة إبراهيم وتجولت في أرض كنعان حيث ظهر الرب لإبراهيم قائلًا: "لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ" (12: 7). بِنَى إبراهيم مذبحًا للرب للعبادة والاحتفال، ثم "نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيل وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ إِيلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ." (12: 8)، وكما ذكرنا سابقًا، يشير سفر التكوين إلى أن إبراهيم بِنَى مذبحًا آخر للرب قبل أن ينتقل مرة أخرى إلى النقب، جَنُوب غرب البحر المَيْت.
التَسَتّر في مصر
كانت المجاعة الرهيبة التي اجتاحت أرض كنعان جزءًا حزينًا ولكن طبيعيًا من حياة الشرق الأوسط القديم، هرب إبراهيم وعائلته إلى مصر طلبًا للنجدة والإغاثة، لكن هذه الخطوة بعيدة كل البعد عن الأمان حيث بدأ إبراهيم يخشى على حياته بسبب جمال زوجته البالغة من العمر 65 عامًا. أكد إبراهيم ذلك قائلًا: "فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ." (12:12).
أوعز إبراهيم إلى زوجته بدافع الدهاء أو الجُبُن، أن "تتظاهر" بأنها أخته، وهو ما كان صحيحًا فعلًا، فسارة كانت أخته غير الشقيقة. كانت مخاوف إبراهيم مبررة على ما يبدو، لأنه بعد دخولهم مصر، "فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدًّا. "وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ [ربما كان سنوسرت الثاني الذي حكم مصر من 1897-1878 ق.م]، فَأُخِذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فأخذوها إلى قصره" (12: 14-15) لم يكن هذا أسوأ المواقف بالنسبة لإبراهيم لأنه تلقى هدايا كثيرة من فرعون، بما في ذلك الماشية والخدم.
يروي العهد القديم مع ذلك، أن الرب لم يكن راضيًا عن المخطط المحيط بإبراهيم وسارة، وسرعان ما تعرض فرعون وأهل بيته لأوبئة رهيبة نبهته إلى حيلة إبراهيم. صرخ فرعون قائلاً: "مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟" (12: 18)، وعاتب إبراهيم على خداعه، وطالبهما بالرحيل (مع السماح لإبراهيم بالاحتفاظ بهداياه، وهذا أمر مثير للاهتمام). يسجل سفر التكوين بعد ذلك، "فَصَعِدَ أَبْرَامُ مِنْ مِصْرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ، وَلُوطٌ مَعَهُ إِلَى الْجَنُوبِ. وَكَانَ أَبْرَامُ غَنِيًّا جِدًّا فِي الْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ." (13: 1-2).
يزدهر إبراهيم وقبيلته ويتوسعون أكثر من قبل، عند العودة إلى أرض كنعان، مما أدي إلى مشاحنات وتنافس بين رعاة إبراهيم ولوط على أراضي الرعي لقطعانهم المتزايدة باستمرار. يذكر سفر التكوين:
"وَلُوطٌ السَّائِرُ مَعَ أَبْرَامَ، كَانَ لَهُ أَيْضًا غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَخِيَامٌ. وَلَمْ تَحْتَمِلْهُمَا الأَرْضُ أَنْ يَسْكُنَا مَعًا، إِذْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمَا كَثِيرَةً، فَلَمْ يَقْدِرَا أَنْ يَسْكُنَا مَعًا. فَحَدَثَتْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنَ رُعَاةِ مَوَاشِي أَبْرَامَ وَرُعَاةِ مَوَاشِي لُوطٍ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفَرِزِّيُّونَ حِينَئِذٍ سَاكِنِينَ فِي الأَرْضِ." (13: 5-7)
هكذا انقسم الاثنان واختار إبراهيم سهل حَبْرُونَ ليكن "وطنًا"، واختار لوط سهل سدوم، الذي سينتهي به الأمر إلى اختيار كارثي له ولعائلته.
العقم
تتعلق إحدى الأجزاء المحورية في قصة إبراهيم وسارة بعدم قدرتهما على الإنجاب، ذلك الأمر الذي كان مهمًا جدًا في العصور القديمة - سواء من الناحية الاجتماعية أو من أجل البقاء على قيد الحياة. عُدّا عدم الإنجاب والعقم في العصر الأبوي علامة عار على المرأة، وعادةً ما يكون نتيجة لخطيئة غير معلنة في حياتها. عُدّا الأطفال فضلًا على ذلك، نعمة وشكلًا من أشكال الضمان الاجتماعي، حيث كانوا يؤمنون الحماية والرعاية في شيخوخة الناس. يرثي إبراهيم نفسه في سفر التكوين 15: 1، متفهمًا:
"فَقَالَ أَبْرَامُ: أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، مَاذَا تُعْطِينِي وَأَنَا مَاضٍ عَقِيمًا، وَمَالِكُ بَيْتِي هُوَ أَلِيعَازَرُ الدِّمَشْقِيُّ؟ وَقَالَ أَبْرَامُ أَيْضًا: إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلًا، وَهُوَذَا ابْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي." (2-3)
يقدّم العهد القديم مرة أخرى لمحة إلى العَلاقة الحميمة بين إبراهيم وإلهه، حيث يعلن الرب قائلًا: "لاَ تَخَفْ يَا أَبْرَامُ. أَنَا تُرْسٌ لَكَ. أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدًّا." (1) وصدق إبراهيم لله في كلمته التي "(الله) فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا" (15: 6). كانت سارة، زوجة إبراهيم، أقل صبرًا وأكثر يأسًا من أن يكون لها طفل، ويبدو أنها كانت عاقرًا ومتقدمة في السن، فأمرت إبراهيم أن يقيم عَلاقة جنسية بجاريتهما المصرية هاجر، التي ستأخذ سارة طفلها لتربيه على أنه ابنها.
عُدّت اللقاءات الجنسية بين العبيد وأسيادهم حدثًا عاديًا؛ مع أنّ هذا الأمر يسيء إلى المشاعر الحديثة لما فيه من قسوة واستغلال، فباعتبارها جارية، لم يكن لهاجر حقوق ملكية (إن وجدت)، فضلًا على ذلك، فإن مثل هذه العَلاقات كان يوفر اندماجًا أعمق في الأسرة ويمكن أن يخلق أمانًا اجتماعيًا أكبر للعبد، ومع ذلك، فإن الروابط البيولوجية والعاطفية بين الأمهات وأطفالهن قوية جدًا، لذلك (من المفهوم) أن الكراهيَة نمت بين سارة وهاجر، بشكل كبير، وانتهى الأمر بعنف جسدي بين سارة وهاجر.
هاجر، الجارية الهاربة
يقول العهد القديم: "فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ، فَهَرَبَتْ مِنْ وَجْهِهَا." (16:7)، وخرجت إلى الصحراء بشكل شديد الْخَطَر ودون مؤونة مناسبة، ولحسن حظ هاجر، وفقًا لـِنص العهد القديم، أرسل الرب ملاًك لينقذها ويعيدها إلى سارة. قائلًا لها: "ارْجِعِي إِلَى مَوْلاَتِكِ وَاخْضَعِي تَحْتَ يَدَيْهَا، وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ." (16: 9-10). هذا يضيف تعقيدًا ثقافيًا آخر إلى القصة، حيث كانت العبودية جزءًا لا يتجزأ من الوجود القديم، وكانت العبودية توفر مزايا رئيسة رافقت قيودها الاجتماعية للعديد من الناس (ولا سيما النساء).
هذا يقودنا إلى لحظة أخرى من أكثر اللحظات المؤثرة في العهد القديم، عندما أطلقت هاجر على الله اسم – "الرُئِي"، فتقول: "فَدَعَتِ اسْمَ الرَّبِّ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهَا: «أَنْتَ إِيلُ رُئِي». لأَنَّهَا قَالَتْ: «أَههُنَا أَيْضًا رَأَيْتُ بَعْدَ رُؤْيَةٍ؟" (16:13). يستعرض العهد القديم رحمة الرب العظيمة ورأفته بهاجر بالرغْم من وضعها المتدني، مؤكدًا على إنسانيتها وقيمتها في العالم، في عصرٍ عدّ فيه العبيد مجرد ممتلكات ويُنزل النساء إلى طبقة اجتماعية دنيا.
عادت هاجر إلى سارة وسلمت طفلها إلى إبراهيم وهو في السادسة والثمانين من عمره، فأمره الله أن يسمي الطفل "إِسْمَاعِيلَ" (16:11)، وعلى الرغم من أنه سيصبح في النهاية أبًا للعرب، إلا أن العهد القديم وصف إسماعيل بأنه: "يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ."(16:12)
عهد الختان
يسجل سفر التكوين بعد بضع سنوات، أن الرب وسع عهده مع إبراهيم موصيًا إياه بأن "سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلًا، فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيرًا جِدًّا." (17: 1-2). سجد إبراهيم في خشوع عندما وصف الرب بعد ذلك هذا العهد الأبدي الجديد بينهما الذي اقتضى إطالة اسمه رسميًا إلى "إبراهيم"، ولكن مع تغيير في جسده. أعلن الله:
"فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. اِبْنَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فِي أَجْيَالِكُمْ: وَلِيدُ الْبَيْتِ، وَالْمُبْتَاعُ بِفِضَّةٍ مِنْ كُلِّ ابْنِ غَرِيبٍ لَيْسَ مِنْ نَسْلِكَ." (17:11-12)
سيكون هذا الاتفاق بين إبراهيم وأمته مع الرب، رمزًا وتعبيرًا ماديًا عن حبهما والتزامهما تجاه بعضهما البعض، مع هذه التضحية والتعبير الجاد عن الإخلاص والطاعة، سيبارك الله الأمة كما كان سيبارك إبراهيم وسارة، بطفل من صلبهما، أخيرًا.
كان إبراهيم وسارة يبلغان من العمر ما يقرب من مئة عام، وبدا احتمال الحمل والولادة مستحيلًا، في الواقع، فعندما سمع إبراهيم خبر أنهما سيصبحان أبوين "فَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ وَضَحِكَ،" (17:17) - وكذلك فعلت سارة، ومع ذلك، يسجل العهد القديم أن الرب أكد للزوجين المسنين قائلًا: "وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَةِ."(17: 20-21). ختن إبراهيم ابنه إسماعيل مطيعًا للرب حتى النهاية، وكذلك جميع رجال قبيلته. خُتِنَ إبراهيم هو أيضًا في سن التاسعة والتسعين من عمره، مما يدل على محبته الكبيرة للرب، وأصبحت عادة ثقافية توارثتها الأجيال حتى وقتنا الحاضر.
تَسَتّر أخر عند ابِيمَالِك
ظل إبراهيم متخوفًا على سلامته هو وأهل بيته، بالرغم من وعود الرب المذكورة في العهد القديم، وهكذا، عندما سافر إبراهيم إلى منطقة جَرَارَ، عادت المخاوف القديمة إلى الظهور مرة أخرى بشأن جمال زوجته سارة وتهديد الآخرين الذين سيقتلونه للحصول عليها، مثل ابِيمَالِك ملك جَرَارَ الذي "فَأَرْسَلَ أَبِيمَالِكُ مَلِكُ جَرَارَ وَأَخَذَ سَارَةَ." (20: 2). أقر إبراهيم مرة أخرى، أن سارة هي أخته (ربما لأن الأمر نجح معه في مصر)، لكن هذه المرة يسجل العهد القديم أن الرب حذر ابِيمَالِك من أن يمس سارة في حلم مزعج.
دافع ابِيمَالِك في هذا الحُوَار الليلي مع الرب، عن قضيته التي وافقه الرب عليها، حيث إن علاقته المحتملة بسارة كانت تتعلق بأكاذيب إبراهيم (وسارة) أكثر من شهوات الملك. ومع ذلك، يردّ عليه الرب قائلًا:
"قَالَ لَهُ اللهُ فِي الْحُلْمِ: أَنَا أَيْضًا عَلِمْتُ أَنَّكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبِكَ فَعَلْتَ هذَا. وَأَنَا أَيْضًا أَمْسَكْتُكَ عَنْ أَنْ تُخْطِئَ إِلَيَّ، لِذلِكَ لَمْ أَدَعْكَ تَمَسُّهَا. فَالآنَ رُدَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، فَيُصَلِّيَ لأَجْلِكَ فَتَحْيَا. وَإِنْ كُنْتَ لَسْتَ تَرُدُّهَا، فَاعْلَمْ أَنَّكَ مَوْتًا تَمُوتُ، أَنْتَ وَكُلُّ مَنْ لَكَ." (20: 6-7)
وبّخ ابِيمَالِك إبراهيم - كما حدث مع فرعون -، الذي يشارك الملك مخاوفه، ولكنّ ابِيمَالِك أعاد سارة إلى إبراهيم مبجلة، بل أكثر من ذلك، أعطى الملك إبراهيم هدايا من الغنم والبقر والجواري والإماء والأغنام قائلًا: "وَذَا أَرْضِي قُدَّامَكَ. اسْكُنْ فِي مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْكَ" (20:15)، وفضلًا إذ أراد إبراهيم أيضًا أن يُصلح الأمور، فليصلّى من أجل ابِيمَالِك وعائلته الذين شُفيوا من لعنة عدم الإنجاب الذي لم تدم طويلًا.
الوفاء بالوعد
يشير سفر التكوين بالرغم من عدم ثقة إبراهيم وحماقته، إلى أن الرب يتمم وعده للزوجين المتعاهدين ويهب لهم إِسْحَاقَ، الذي يعني اسمه "الضحك"، لأن سارة ضحكت عندما سمعت أنها ستحمل في هذه السن الكبيرة. يطيع إبراهيم، - وقد بلغ من العمر الآن مئة سنة -، وصية الله ويختن إِسْحَاقَ حسب العهد، "فَكَبِرَ الْوَلَدُ وَفُطِمَ" (21: 8)، ولكن قصة عائلة إبراهيم لم تنتهِ بعد، لا شك أن هاجر المصرية سخرت من إِسْحَاقَ وسارة بدافع الغَيْرَة وعدم الأمان مما لفت انتباه سارة التي ضاقت ذرعًا بتصرفات جاريتها الوقحة وطلبت من إبراهيم أن يرسلهما بعيدًا. يقول سفر التكوين: "فَقَبُحَ الْكَلاَمُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ابْنِهِ." (21:11)، ولكن الرب طمأن إبراهيم بأنه سيعتني بإسماعيل ويباركه كثيرًا.
تصارع هاجر وطفلها مرة أخرى من أجل البقاء على قيد الحياة في الصحراء، ويموتان من العطش، ومرة أخرى يرسل الرب ملاكًا لينقذها هي وإسماعيل ويقول: "فَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الْغُلاَمِ، وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ. قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً." (21: 17-18)، ثم يمدهم الرب ببئر ماء ليروي عطشهم ويبرد أجسادهم. يقول سفر التكوين: "وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ." ((20:21)
يتعلق أحد أكثر المقاطع المثيرة للجدل في العهد القديم بوصية الرب لإبراهيم بأن يذبح ابنه إِسْحَاقَ - ابن الوعد. قال الرب لإبراهيم: "خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ" (22:2)، ومن المثير للاهتمام أن الآيات لا تسجل جدال إبراهيم للرب، بالرغم من أنه لابد كان في صراع وحزن شديدين بشأن أمر الرب له.
التضحية بإسحاق
أخذ إبراهيم في اليوم التالي، ابنه وخادمين في رحلة إلى الجبل الذي أوصاه الرب أن يضحي به عليه، لا تزل هناك تساؤلات حول عمر إِسْحَاقَ، حيث يقول بعض العلماء أنه كان لا يزال صبيًا صغيرًا، في حين يقول آخرون أنه كان قد قارب "سن الشباب"، ومهما يكن، فإن إِسْحَاقَ لم يكن على علم بخطة الرب له، وسأل أباه: "أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟" (22: 7)، فأجابه إبراهيم: "اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي" (22: 8)، وهو ما أكد للعديد من المسيحيين أنه تنبؤ بالحدث الذي حدث لذبيحة يسوع على الصليب كما ورد في العهد الجديد.
بعد أن أتعب إبراهيم ابنه إِسْحَاقَ بدهاء بجعله يحمل الحطب لذبيحته إلى أعلى الجبل، "بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ. وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ. ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ." (7:22-10)، لكن ملاك الرب أوقفه وأثنى عليه لاستعداده لذبح ابنه طاعة للرب وخوفًا (احترامًا) منه. قال ملاك الرب لإبراهيم:
"مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَعَلْتَ هذَا الأَمْرَ، وَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ." ((22: 16-17)
تشارف قصة إبراهيم علي الانتهاء بوفاة سارة عن عمر يناهز 127 عامًا، في حبرون ودفنت في مغارة المكفيلة التي اشتراها إبراهيم من الحثيين والتي سيدفن فيها جميع الأباء والأمهات إلى جانب راحيل، لم يتم التحقق من موقع المغارة حتى الآن بالرغم من أن بعض العلماء ادعوا اكتشافها في القرن التاسع عشر الميلادي، زاعمين أنها تحت مبنى ضخم بناه في الأصل هيرودس وفوقها الآن مسجد إسلامي يرجع لعهد صلاح الدين الأيوبي.
يشير سفر التكوين الإصحاح الخامس والعشرين إلى أن إبراهيم تزوج مرة أخرى بعد وفاة سارة (أو تزوج امرأة أخرى وهو لا يزال متزوجًا من سارة) وهو في عمر 137عام. كان اسم زوجته الثانية قَطُورَةُ وأنجبا معًا ستة أولاد: "زِمْرَانَ وَيَقْشَانَ وَمَدَانَ وَمِدْيَانَ وَيِشْبَاقَ وَشُوحًا." (25: 2)، ومع ذلك، وبحسب التقليد اليهودي، كان إِسْحَاقَ هو، ابن الوعد الوارث الرئيسي لإبراهيم، وعلى هذا، مات إبراهيم عن عمر 175 عام، "مَاتَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ، شَيْخًا"(25: 7-8)، ذهبت كل ممتلكاته إلى إِسْحَاقَ، بما في ذلك بركة الرب عن طريق العهد، ومع ذلك، في عرض جميل للاتحاد الحزين: "دَفَنَهُ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَاهُ فِي مَغَارَةِ الْمَكْفِيلَةِ فِي حَقْلِ عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ الْحِثِّيِّ الَّذِي أَمَامَ مَمْرَا، الْحَقْلِ الَّذِي اشْتَرَاهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَنِي حِثٍّ." (25: 9-10).
الأدلة الكتابية والأثرية لأبو الأنبياء إبراهيم
لا توجد أدلة أثرية مباشرة عن إبراهيم إلا القليل، هذا وإن وجدت. كما هو الحال مع الشخصيات التوراتية القديمة الأخرى، فبحكم طبيعتها، لا تترك القبائل البدوية سوى القليل من المباني الدائمة أو أدوات الدينية تثبت وجودها، ففي الصحراء، جميع الموارد ثمينة ولا غنى عنها لحياة المجتمع القبلي، ومع ذلك، فإن العديد من الاكتشافات الأثرية (القديمة والحديثة) تؤكد بشكل غير مباشر وجود أشخاص وأماكن كان إبراهيم سيصادفها في رحلاته التي صورها العهد القديم.
أكد علماء الآثار على سبيل المثال، وجود مدينة سكنية بالقرب من مدينة أور القديمة في جَنُوب العراق التي كانت موجودة خلال رحلة إبراهيم، وإشارات في ألواح إبلا التي يبدو أنها تظهر فهمًا توحيديًا للإله على الرغم من تعدد الآلهة في ثقافة الشرق الأوسط في القرن العشرين قبل الميلاد، وآلاف الألواح الطينية التي عثر عليها في موقع مملكة ماري في سوريا الحالية والتي تتضمن مصطلحات موجودة في قصة إبراهيم التوراتية، ويشير العلماء إلى وجود صلات تاريخية بين إبراهيم بالخروج والهجرة الأمورية التي حدثت حوالي 2100ق.م.
مقتبس بتصرف من: "الله في التفاصيل: مسح لنصوص العهد القديم واليونانية" (كندال هانت، 2017).