
كان يوحنا المعمدان (توفي حوالي عام 30 م) واعظًا متجولًا في اليهودية خلال القرن الأول الميلادي. نحن لا نعرف اسمه الكامل، ولكنه كان معروف بنشاطه. تُرجمت كلمة "المعمدان" (باليونانية: ὁ βαπτιστής) مباشرة إلى اللغة الإنجليزية وتعني "الغمر أو الغطس"، حيث كان يوحنا يغمر الناس في نهر الأرْدُنّ عقب توبتهم من خطاياهم. يعد يوحنا المعمدان بجانب يسوع الناصري وبولس الرسول، أحد أشهر الشخصيات في المسيحية، وأصبح طقس المعمودية من أوائل الشعائر التي مارسها المسيحيون.
حصل يوحنا على لقب الشهيد في القرن الرابع الميلادي، ويُعرف الآن باسم القديس يوحنا. اشتهرت بقاياه في تجارة الآثار، حيث لا تزل العديد من الكنائس تدعي أنها تمتلك رأسه أو يده اليمنى التي عمدت يسوع. يدعي المسيحيون المندائيون في العراق أنهم أخر من تبقي من أتباع يوحنا المعمدان، حيث اندمجت بعض تعاليمهم أيضًا مع طائفة مسيحية غنوصية تُعرف باسم المانوية. لا تزل المجتمعات المسيحية في جميع أنحاء العالم تستخدم المعمودية كعنصر أساسي في الإيمان، ويُكرم يوحنا كنبي تقي لله في الإسلام.
يوسيفوس
يحتل يوحنا مكانة كبيرة في دراسات العهد الجديد؛ لأن لدينا وصفًا له من مصدر غير مسيحي. كان فلافيوس يوسيفوس (37-100 م) مؤرخًا يهوديًا كتب تاريخ اليهود، لم يكن شاهدًا على يوحنا، لكنه استخدم السجلات والوقائع المعاصرة. ترد قصة يوحنا المعمدان خلال استطراد تاريخه عن هِيرُودُسَ أنتيباس (ملك الجليل، حوالي 4 ق.م - 39 م)، الذي كان متزوجًا ابنة الملك الحارث الرابع ملك الأنباط (حكم حوالي 9 ق.م - 40 م)، وهي مملكة تقع في الأرْدُنّ (البتراء)، ثم طلقها ليتزوج هيروديا، طليقة أخيه غير الشقيق، هيرودس فيلبس الأول، ونستدل من اسمها، علي صلة قرابتها الوثيقة بهؤلاء الرجال الذين كانوا أعمامها غير الأشقاء. ذهب الملك الحارث إلى الحرب ضد هِيرُودُسَ أنتيباس وهزمه، ثم أضاف يوسيفوس:
"إن بعض اليهود كانوا يرون أن هزيمة جيش هِيرُودُسَ كانت عقوبة إلهية، بسبب ما فعله ضد يوحنا الذي يُدعى المعمدان؛ فقد قتل هيرودس يوحنا، وهو رجل صالح، كان يأمر اليهود بممارسة الفضيلة، عن طريق العدل بين الناس، والتقوى نحو الله، وبهذا كانوا يأتون إلى المعمودية؛ لأنه كان يرى أن هذا الاغتسال (بالماء) مقبولًا عند الله، إذا لم يكن للتطهير من خطايا بعينها، بل لتطهير الجسد، باعتبار أن النفس قد تطهرت من قبل بالبرّ." (آثار اليهود، 18.5.2)
سبب موت يوحنا هو أنه كان لديه "أتباع كثيرون"، فغالبًا ما كانت الحشود الكبيرة في اليهودية تؤدي إلى أعمال شغب، عادةً ضد الحكومة القائمة. وصف يوسيفوس العديد من الوعاظ المتجولين الآخرين في ذلك الوقت الذين كان لديهم أتباع. كانت الحكومة الرومانية تقليديًا تعتقل الزعيم وتعدمه هو وأكبر عدد ممكن من أتباعه. قتل هِيرُودُسَ يوحنا لأنه كان يخشى أن تعتقد روما أنه لا يستطيع السيطرة على مقاطعته.
هذه القصة مهمة ليس فقط لإثبات نشاط يوحنا، ولكن أيضًا لإثبات وجود جمهور كبير له، فبعد وفاته، تجمع أتباعه حول اسمه ونقلوا تعاليمه وطقوس معموديته على ما يبدو.
الأناجيل الأربعة
تبدأ الأناجيل الأربعة خدمة يسوع بمعموديته على يد يوحنا. هذا لا يشير إلى وجود أربع مصادر مختلفة ليوحنا؛ حيث استخدموا الإنجيل الأول، مرقس، وأضفوا تفاصيلهم الخاصة. تقنع معمودية يوحنا ليسوع في الأناجيل الأربعة العلماء بأن:
- لا بد أن هناك تقليد قديم يقول إن يوحنا عمد يسوع.
- لا بد أن قصة يوحنا (أنشطته وموته) كانت معروفة جيدًا؛ فالناس ظلوا يسألون عما إذا كان يسوع هو يوحنا الذي عاد من الموت.
- كان أتباع يوحنا يمثلون مشكلة لأتباع يسوع: "وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا كَثِيرًا ... وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟» (لوقا 5:33).
يشير إنجيل يوحنا إلى التنافس بين المجموعتين: "فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا" (يوحنا 4: 1-2). دفعت تقاليد يوحنا كُتّاب الأناجيل إلى الرجوع إلى الكتب اليهودية لتفسير العَلاقة بين الاثنين، ونلاحظ أن جميع الأناجيل تؤكد على تفوق يسوع على يوحنا.
إنجيل مرقس
بدأ مرقس (حوالي 70 م) إنجيله بمعمودية يسوع، ولذلك يستخدمه العلماء كقصة أساسية ليوحنا:
"بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ،كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: «هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا.وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا.وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلًا: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ».وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ.وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلًا عَلَيْهِ.وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».لِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ،َ كَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ." (مرقس 1: 5-13).
دمج مرقس عدة نصوص مسيحية من الأنبياء إشعياء وملاخي (3:1؛ 4.5) وصور تذكر بالنبي إيليا. يرتبط الوصف الجسدي ليوحنا (وَبَرَ الإِبِلِ - يَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا) بقصص إيليا (1 ملوك 17-19 و2 ملوك 1-2 ملوك). كان إيليا يرتدي "إِنَّهُ رَجُلٌ أَشْعَرُ مُتَنَطِّقٌ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ" (2 ملوك 1:8). أصبح وصف مرقس الطريقة المفضلة لتصوير يوحنا في الفن والسينما.
يدعي الاقتباس من سفر ملاخي (حوالي 450 ق.م؟) أن إيليا، الذي أُخذ إلى السماء دون أن يموت، سيرسله الله كرسول "قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ" (ملاخي 4: 5) وسيعلن مجيء المسيح، يظهر إيليا في مشهد التجلي، ليسوع مع موسى، مما يشير إلى تحقيق هذه النبوءة (متى 17:1-8، مرقس 9:2-8، لوقا 9:28-36).
الروح القدس المذكور في هذا المقطع ليس بعد الأقنوم الثالث لدي المسيحية؛ بل روح الله (نفس الله الذي "حل" على الأنبياء)، والحمامة هي رمز لحضور الله. أصبح يسوع الآن موهوبًا بنفس روح الأنبياء حتى يتمكن من صنع المعجزات. الذَّهاب إلى البرية هو أيضًا إشارة إلى الأنبياء، الذين ذهبوا إلى البرية في نوع من التَمْرِين للتحضير لخدمتهم.
أبلغ مرقس عن وفاة يوحنا في منتصف خدمة يسوع. كان سبب اعتقال يوحنا في رواية مرقس، هو انتقاده لزواج أنتيباس من هيروديا، "أَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ»" (مرقس 18:6). هذا هو المشهد الشهير لحفلة عيد ميلاد أنتيباس، حيث رقصت ابنة زوجته للضيوف، وعرض عليها أن يمنحها أي شيء تريده، وبناءً على إلحاح والدتها، طلبت «أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالًا رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق». (مرقس 25:6). لم يذكر مرقس اسم الابنة، لكننا نعرف من الأنساب أنها كانت تدعى سالومي، في حين وصف يوسيفوس موت يوحنا بأنه حيلة سياسية، في حين مرقس، تماشياً مع الموضوع الرئيس لإنجيله، جعل يوحنا يموت بسبب الخلافات الدينية بين اليهود.
إنجيل متي
من الجدير بالذكر أن يوسيفوس ومرقس لم يوصفا يوحنا بأنه كان يبشر بملكوت الله الوشيك، وهو ما كان رسالة يسوع؛ كلاهما يذكر أن يوحنا كان يعمد الناس "لمغفرة الخطايا" كعلامة واضحة على التوبة، أما متى، عند تحريره لإنجيل مرقس، حذف الجملة التي تذكر مغفرة الخطايا، وبدلًا من ذلك، ربط يوحنا بيسوع بنفس الرسالة: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلًا: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ." (متى 3: 1). خاطب يوحنا الفريسيين والصدوقيين بقوله "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي" (متى 3: 7)، مما يظهر الجدل المفضل لدى متى ضد السلطات. أرسى ذلك الصورة المميزة ليوحنا باعتباره نوعًا من الوعاظ المتحمسين الذين يعملون جنبًا إلى جنب مع يسوع لإعداد الجميع للملكوت القادم.
يبدو يوحنا في إنجيل متى مترددًا في البداية: حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلًا: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ." (متى 3: 13-15). أحد موضوعات متى هو أن كل شيء يتعلق بيسوع، بما في ذلك يوحنا، الذي حقق نبوءات العهد القديم.
إنجيل لوقا
قدم إنجيل لوقا سيرة حياة يوحنا، التي أصبحت الآن معيارًا في المسيحية. كان والدَا يوحنا المعمدان زوجين مسنين وعقيمين، حظيا بتدخل إلهي في ولادة ابنهما؛ حيث ظهر الملاك جبرائيل:
"«لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا... وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ... وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا»." (لوقا 1:1-18)
إن عدم شرب الخمر هو إشارة إلى ما يُعرف "نَذْرَ النَّذِيرِ" (سفر العدد 6: 2-4). كان الأفراد يتخذون "نَذْرَ النَّذِير" لإظهار إخلاصهم التام لله. كان كل من شمشون (سفر القضاة 13: 4) وصموئيل (سفر صموئيل الأول 1: 11) من أبناء النساء العاقرات اللواتي حصلن على وعود إلهية، وكان "نَذْرَ النَّذِير"، الذي يحظر "لاَ يَمُرُّ مُوسَى عَلَى رَأْسِهِ"، هو ما جعل يوحنا كَثَّ الشعر واللحية.
زارت مريم التي ذكرها لوقا قريبتها أَلِيصَابَاتُ حين كانتا حاملين، وهذا هو المصدر الوحيد الذي يشير إلى القرابة بين يسوع ويوحنا، وعندما اقتربت مريم من أَلِيصَابَاتُ، "ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا" (لوقا 41:1). إذا كان هناك من يشك فيمن هو الأفضل بالنسبة للوقا، فإن يوحنا اعترف بـ "ربه"، حتى وهو في رحم أمه، ولكن لاحظ أن معمودية يسوع تحدث في الخلفية عند لوقا، وليس بشكل مباشر.
يذكر كل من متى ولوقا مشهدًا خلال خدمة يسوع يتناقض مع قصصهما الافتتاحية: "أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟»" (متى 11؛ لوقا 7). يطلب يسوع منهم أن يرووا المعجزات التي صنعها، ثم يقول للجمهور: "لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ»." (لوقا 28:7).
إنجيل يوحنا
بدأ يوحنا إنجيله بالمقدمة الشهيرة التي تدعي أن المسيح هو الكلمة الموجودة منذ الأزل، "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يوحنا 14:1). يشهد يوحنا المعمدان بشكل أساسي على هذه الطبيعة الإلهية:
"كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ." (يوحنا 1: 6-8)
ساهمت قصة يوحنا المعمدان في صياغة العقائد اللاحقة؛ ففي الإنجيل الرابع، حدثت الصُّلْب خلال ذبح الحملان في الهيكل بمناسبة عيد الفصح، وعندما اقترب يسوع، قال المعمدان: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!" (يوحنا 29:1). تبلغ ليتورجيا (خدمة) القربان المقدس ذروتها في الكنيسة الكاثوليكية، بهذه العبارة من يوحنا.
تَارِيخِيَّة يوحنا
الكلمة اليونانية (ὁ βαπτιστής) هي المفهوم اليهودي (טְבִילָה)، أو "الغطس الكامل للجسم". كان (טְבִילָה) مطلوبًا فيما يتعلق بالنقاء/النجاسة للحفاظ على قدس الأقداس داخل الهيكل. هذه الممارسة موثقة في البقايا الأثرية في فلسطين. كلمة (מקווה) بالعبرية تعني "تجمع المياه" وهي مغطس مبني في الصخر، مع درجات تؤدي إلى الأسفل. كان يجب أن تحتوي على "ماء جاري" (أي غير راكد)، وكان الشخص يغمر نفسه فيها، وعليه أصبحت المعمودية تعني ببساطة الغمر.
لا يزل هناك شذوذ تاريخي في قصة يوحنا المعمدان؛ لم يشرح يوسيفوس ولا الأناجيل سبب قيام يوحنا بالتعميد في نهر الأرْدُنّ، في حين أن شعائر التوبة بالماء كانت متاحة في الهيكل في القدس، ومع ذلك، إذا كان نذيرًا فإن منطقة نشاطه ستكون الصحراء، وبالجمع بين يوحنا وخدمة يسوع، فإن الفهم التقليدي يربط يوحنا بنفس الموقف المعادي للهيكل الذي نُسب إلى يسوع في الأناجيل.
أجريت عدة دراسات، بالتزامن مع اكتشاف مخطوطات البحر المَيْت في عام 1947 م والمعلومات الواردة فيها عن جماعة الإسينيين في قمران، لتحديد ما إذا كان يوحنا عضوًا فيها. كان الإسينيون يمارسون المعمودية ويهتمون بفصل "الطاهرين" عن "النَجِسين". كان التوبة في قاعدة المجتمع الأسيني، تسبق تلقي "الروح القدس" (ق1 .3: 8-9)، كما انتقدوا الهيكل في القدس بشدة.
المعمودية في المجتمعات المسيحية المبكرة
لا توجد لدينا لسوء الحظ، أي وثائق كتبها أتباع يوحنا من ذلك العصر. نحن نعلم أن أحد أتباع يوحنا أو يسوع الأوائل أدخل المعمودية إلى المجتمعات المسيحية الأولى. ادعى لوقا أن هذه الممارسة بدأت في عيد العنصرة بالقدس، فبعد حلول الروح على التلاميذ، "قَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ." (أعمال الرسل 38:2). كان المعمودية باسم يسوع في سفر أعمال الرسل، دليلًا على فعاليتها: حيث منحت المعمودية الناس مواهب الروح؛ فاهتزت الغرفة، وتنبأ الناس، "فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ" (أعمال الرسل 19:6).
يُذكر الصدام بين المجموعتين في سفر أعمال الرسل (18 و19)، حيث التقى رفاق بولس في السفر، بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ، بـ "يَهُودِيٌّ اسْمُهُ أَبُلُّوسُ، إِسْكَنْدَرِيُّ الْجِنْسِ، ... عَارِفًا مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ.. ... أَخَذَاهُ إِلَيْهِمَا، وَشَرَحَا لَهُ طَرِيقَ الرَّبِّ بِأَكْثَرِ تَدْقِيق." (18: 24-27)، ثم ذهب بولس إلى أفسس والتقى ببعض الذين عمدهم أَبُلُّوسُ "بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا"، لكنهم "وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ الرُّوحُ الْقُدُسُ". اضطر بولس إلى إعادة تعميدهم، وهذه المرة "حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ، فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ." (19: 1-7).
نحن نعلم أن أَبُلُّوسُ كان موجودًا لأن بولس ذكره في رسالة كورنثوس الأولى. لا توجد لدينا تفاصيل أخرى غير ذلك، ولكن تصحيح مجموعة ما لأخرى ينطوي على نقد. أصبحت الشعائر التي وصفها لوقا - الاعتراف، المعمودية، استقبال الروح - هي القاعدة في الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الغربية بصفتها أحدي الأسرار المصحوبة بالروح.
لا ترد قصة معمودية بولس، إلا في سفر أعمال الرسل (9: 17-19)، عندما شفاه مسيحي اسمه حَنَانِيَّا من عمى عينيه وعمده. لم يذكر بولس معموديته قط، لكن المعمودية هي موضوع رئيس في رسائله؛ ففي رسالته إلى مجتمع رومية، استخدم تشبيه الموت لوصف ما حدث في المعمودية:
"فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَنَبْقَى فِي الْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ النِّعْمَةُ؟ حَاشَا! نَحْنُ الَّذِينَ مُتْنَا عَنِ الْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟" (رومية 6: 1-4).
بعبارة أخرى، كانت المعمودية تهدف إلى إحداث تغيير جذري في حياة المرء، بحيث لا يقرب الخطيئة بعد ذلك. كانت المجتمعات الأولى تمارس معمودية البالغين، التي كانت تتم بعد مدة من الدراسة (عادةً ما تكون ثلاث سنوات)، عُمِّدَ المبتدئين، كمجموعة، في عيد الفصح.
معمودية الأطفال
ظهرت معمودية الأطفال أول مرة في القرن الثاني الميلادي في شمال إفريقيَا، على الأرجح بسبب ارتفاع معدلات وَفَيَات الأطفال. ابتكر القديس أوغسطينوس (354-430 م) في القرن الرابع الميلادي، مفهوم الخطيئة الأصلية، معلنًا أن الخطيئة الأولى أدت إلى دخول الشهوة إلى جنة عدن، وبصفتنا [حفدة] آدم وحواء، نرث جميعًا هذه الخطيئة الأولى في أرواحنا منذ لحظة الحمل. أصبح التعميد طقسًا للتخلص من الخطيئة الأصلية؛ فبدون التعميد، لا يمكن للمرء أن يصل إلى الجنة.
أدخل القديس أوغسطينوس شعائر طرد الأرواح الشريرة في الصيغة؛ حيث كان لا بد من التخلي عن الشيطان قبل المعمودية، وسمح للآخرين بأن يكونوا رعاة للتربية الروحية للطفل، وأدخل ممارسة العَرَّابة، ومع ذلك، تواصل العديد من الطوائف المسيحية الحديثة ممارسة معمودية البالغين، مثل الكنائس المعمدانية.